عازفة الكمان بيرولين ثاني تروي ظمأَ الرُّوحِ إلى ماضينا البعيدِ وحاضرِنا المُشتعلِ بآهاتِ الحَنينِ

 


19



انبثقتِ الموسيقى مِنْ شهقاتِ الطَّبيعةِ، مِنْ أمواجِ البحرِ وزخَّاتِ المَطرِ، مِنْ هُبوبِ النَّسيمِ في صباحاتِ الرَّبيعِ، مِنْ حفيفِ الأشجارِ وهي تُناغي تغريدَ البلابلِ، مِنْ هَسيسِ الكائناتِ المتناثرةِ في أحضانِ الطَّبيعةِ، مِنْ كَرْكَرَاتِ الأطفالِ وهم في أحضانِ أمَّهاتِهم، مِنْ أعماقِ الأحلامِ المنبثقةِ مِنْ جوارحِ الرُّوحِ التّوَاقةِ إلى أشهى الذِّكرياتِ. الموسيقى سرُّ مِنْ أسرارِ الأعالي، يموجُ في كينونتِنا عَبرَ شَهيقِ الرُّوحِ، الموسيقى نِعمةُ السَّماءِ المُتهاطلةُ فوقَ آفاقِ المَوهوبينَ والمَوهوباتِ في جنائنِ الأرضِ. تتراقصُ دندناتُها في خيالِ المُبدعينَ والمُبدعاتِ وتجمحُ عالياً، فتضحكُ الدُّنيا لهذه الدَّندناتِ المتراقصةِ فوقَ خميلةِ الأرضِ. فجأةً فيما كنْتُ غائصاً في أوجِ تأمُّلاتي، شاهدْتُ طِفلةً مَوهوبةً تعزفُ على الكَمانِ، على أوتارِ البهاءِ ومنابعِ الجمالِ وأصفى ما في رِحابِ الحنينِ، أبهرتْني بعزفِها المُنسابِ إلى إيقاعِ أنباضِ القلبِ، كأنَّها هديَّةٌ منبعثةٌ مِنْ وهْجِ الفرحِ في صَباحِ العيدِ، عازفةٌ لمّاحةٌ مِنْ لونِ نضارةِ الكُرومِ، مِنْ بهاءِ اخضرارِ الشَّمالِ، شَمالِ القلبِ والرُّوحِ، ومُرتكزاتِ سُموِّ الألحانِ. اسمُها بيرولين ويعني اللّؤلؤة، وكأنَّ والدَها جورج ثاني تكهّنَ بأنْ تكونَ هذهِ اللُّؤلؤةُ مِنْ أثمنِ لآلئِ البحارِ، تكهُّناتٌ لا تخطرُ على بالٍ. تعزفُ بمهاراتٍ مُدهِشةٍ على تراقصاتِ أوتارِ الكمانِ، كأنَّها نسمةُ فَرَحٍ تُحلِّقُ فوقَ حدائقِ العُمرِ المضمَّخةِ باخضرارِ أغصانِ الرُّوحِ. تُناجي القلوبَ المرهفةَ في أنغامِها المتماهيةِ مَعَ ترانيمِ مزاميرِ المحبّةِ وتلألؤاتِ النُّجومِ، تُهدهدُ الخيالَ في رَهافةِ انبعاثِها. انجذبْتُ بكلِّ مَشاعري إلى عذوبةِ موسيقاها الغارقةِ ببسْمةِ الطُّفولةِ، راحَتْ بكلِّ شُموخٍ تُغدِقُ علينا رفرفاتٍ مَصحوبةً بزقزقةِ تجلِّي مُهجةِ الأنغامِ، مُبلسِمةً مرامي الحنينِ إلى إشراقاتِ أشهى الأحْلامِ. 

حلَّقَتْ بيرولين عالياً في فضاءِ أدائِها المُجنَّحِ نحوَ أبهى التَّجلِّياتِ، كأنَّها تَسبحُ في سَماءِ الفرحِ وأمواجِ الهناءِ، تُهدهِدُ طُموحاتِنا الغافيةَ بينَ حنايا العُمرِ، وتناجي المشاعرَ الَّتي تنتابُنا بكلِّ ابتهاجٍ، فتُلامِسُ ارهافاتِنا في أوجِ استماعِنا إليها، نستمعُ بتركيزٍ عالٍ ومُتعةٍ طافحةٍ ببهجةِ الابتهالِ. تَغمرُنا فَرَحاً مَصحوباً بنشوةٍ مُنعِشةٍ للقلبِ، وتمسحُ عَنْ أجنحتِنا سَماكاتِ الغُبارِ المتراكمِ فوقَ جِراحِ السِّنينَ. تستحوذُ بأنغامِها على مساحةٍ رَحبةٍ مِنْ خَيالِنا، وتروي ظمأَ الرُّوحِ إلى ماضينا البعيدِ وحاضرِنا المُشتعلِ بآهاتِ الحَنينِ، نَستمعُ إليها بمُتعةٍ غامرةٍ كأنَّنا في حالةِ انتعاشٍ لِمَا في تناغماتِ عَزفِها مِنْ تماهٍ مَعَ أوجاعِنا الخفيّةِ، وأشواقِنا إلى ذكرياتِنا الغافيةِ في طيِّ الكِتْمانِ، حفاظاً على طُفوحِ الدَّمْعِ في وضَحِ النّهارِ. تعزفُ بكلِّ انغماسِها على الوترِ الحسَّاسِ مِنْ شَغفِنا المُترعِ في مَرافئِ الطُّفولةِ، وتزجُّنا في مواجهةِ ذواتِنا الهاربةِ مِنْ ضَجرِ الحياةِ، ونحنُ في أوجِ اغترابِنا، فتوقظُ في أعماقِنا ترسُّباتِ الأماني الّتي تراكَمَتْ في كينونَتِنا على مَدى عُقودٍ مِنَ الزَّمانِ، إلى أنْ تبعثرْنا في فضاءٍ مِنَ التِّيهِ المُزنَّرِ بأسئلةٍ لا تخطرُ على بالٍ، فجاءَتْ بيرولين كي تُوقظَ فينا هذهِ التَّساؤلاتِ الغافيةَ في ظِلالِ ذِكرياتِنا المعتّقةِ بطموحاتٍ مُجذرّةٍ في أهازيجِ الطُّفولةِ والشَّبابِ. عَزفٌ خلَّاقٌ موشَّحٌ بأصفى انبعاثِ أنغامِ البوحِ، كأنَّها ترقصُ ألقاً فرحاً حُبَّاً بهاءً. تقدِّمُ لنا رسالةً مَمْهورةً بلبِّ الحضارةِ على إيقاعِ عشتارَ، إلهةِ الحبِّ والجمالِ، رافِعةً رأسَها بكلِّ شُموخٍ، كأنَّها تُناجي أنغامَ تراتيلِنا السِّريانيِةِ المُنبَعثةِ مِنَ الهياكلِ الكنسيّةِ المقدَّسةِ مُنذُ آلافِ السِّنينَ!


تمتلكُ بيرولين طاقةً فنِّيّةً مُبهرةً في انسيابيّةِ تدفُّقاتِ أنغامِها، خيالُها جامحٌ جُموحَ النَّسيمِ المُهفهفِ في صباحاتٍ مبلَّلةٍ بالفرحِ المتوَّجِ بزقزقاتِ العصافيرِ، رفرفَتْ أجنحتُها عالياً على أنغامِ فَرحٍ مُوشَّحٍ ببَخورِ الحَنينِ إلى بيوتِنا المرسَّخةِ في أرخبيلاتِ الذَّاكرةِ، فأورقَتْ في قلوبِنا أزاهيرُ مُعبّقةٌ بأريجِ السَّوسَنِ وعبيرِ الزَّنْبقِ البرّي. عازفةٌ بارِعةٌ في رَهافةِ الانبعاثِ، موهبةٌ شامِخةٌ في أبراجِ الأعالي، ومُضمّخةٌ برحيقِ نيسانَ بكلِّ ما فيها مِنْ حَيويَّةِ الشَّرقِ وشُموخِ آفاقِ الغربِ. تحملُ بينَ أجنحتِها جيناتٍ عبقريَّةً، توارَثَتْها مِنَ الأسلافِ على مَدى تَراكُمِ عُقودٍ أو قرونٍ مِنَ الزَّمانِ، تَبرعمَتْ جيناتُها الخلّاقةُ في كينونتِها المُستَنبَتةِ مِنْ لُبِّ الحضارةِ. تُشبِهُ زَخّاتِ المَطرِ الهتونِ وهي تتهاطلُ ألقاً وحبوراً فوقَ أرضٍ عَطشى لأصفى الألحانِ. كَمْ نحنُ عطشى للجمالِ والبهاءِ وأبهى صُنوفِ العَطاءِ. أبهجَتْ بيرولين قلوبَنا بكلِّ ما لديها مِنْ مَهاراتٍ مَصحوبةٍ بالعذوبةِ، وقفَتْ بثقةٍ عاليةٍ فوقَ أرقى المَسارحِ، وزرَعَتْ في أعماقِ رؤانا إشراقةَ أمَلٍ، كأنَّها منذورةٌ لإخصابِ التَّجلِّي، لأنقى رِحابِ البهاءِ، لأزهى بَركَاتِ العطاءِ. تقضي ساعاتٍ طوالاً تعزِفُ على إيقاعِ تراقصاتِ القلبِ، إلى أنْ غدَتْ مِثالاً يُحتذى بها في سَماءِ الغربِ وسُطوعِ الشَّرقِ، إلى أنْ فاقَتْ مَهاراتِ الغربِ في انبلاجِ الخيالِ. سبقَتْ بيرولين عمرَها الزَّمنيِّ، حَلَّقتْ فوقَ مرامي الطُّفولةِ ورفرَفَتْ عالياً في ملاعِبِ الكبارِ، وعزفَتْ على مسارحِ بولونيا وبلغاريا وكرواتيا والنّمسا، وقادَتْ كونسيرتاً بمهارةٍ عاليةٍ، تجاوزَتْ أهلَ جيلها زَمناً شاهقاً. تُشبِهُ حُلْماً مفتوحاً على بوّاباتِ بوحِ الخيالِ، عازفةُ كمانٍ على إيقاعِ تجلِّياتِ جُموحِ الرُّوحِ، وكأنَّها تُترجمُ أحلامَنا المفروشةَ فوقَ أصفى قِبابِ الحنينِ. تناجي بواطنَنا الخفيّةَ برهافةٍ عاليةٍ وتقنياتٍ فاجأَتْ كبارَ العازفينِ والعازفاتِ، ورفعَتْ مِنْ سقفِ الطُّموحِ، إلى أنْ لامسَتْ هِلالاتِ السَّماءِ، مٌترجِمةً أحلامَنا وآفاقَ تطلُّعاتِنا إلى أقصى ما يموجُ في خمائلِ الخَيالِ. تَنسابُ أنغامُها بعذوبةٍ مُبهجةٍ للروحِ في مَرافئِ أشواقِنا الغافيةِ في أعماقِنا التّواقةِ إلى ظِلالِ بيوتِنا العَتيقةِ، المسترخيةِ في تجاويفِ الذَّاكرةِ المزنَّرةِ في وِشاحِ اللَّيلِ. تترجمُ عَبرَ دندناتِ أنغامِها أشواقَنا العميقةَ إلى طُفولةٍ مُبرعمةٍ بينَ سُهولِ القَمحِ المُمْتدّةِ على مِساحاتِ العبورِ في مروجِ الألعابِ، وإلى أغصانِ الدَّالياتِ الّتي كانَتْ تظلِّلُ أيامَنا بالخيرِ والبرَكاتِ، والمكلَّلةِ بأنقى حبورِ الاخضرارِ، فيغمرُنا الحنينُ إلى ملاعبِ الطُّفولةِ والصِّبا، على أنغامِ أوتارِها المغرِّدةِ كتغريدِ البلابلِ في أوجِ اخضرارِ الرَّبيعِ!

تعزفُ بيرولين بطريقةٍ حُلْميّةٍ مجنَّحَةٍ نحوَ تلألؤاتِ نُجَيماتِ الصَّباحِ، يحلِّقُ خيالُها في فضاءِ رأسِ العينِ، مسقطِ رأسِها المخضّبِ بالخيراتِ والماءِ الزُّلالِ، الصَّافي صَفاءَ القصيدةِ المتناثرةِ فوقَ ظهورِ النَّوارجِ في مواسمِ الحَصادِ والخيرِ الوفيرِ، حيثُ ذكرياتُ الطُّفولةِ تزهو في رحابِ آفاقِها وهي تعبرُ أزقَّتَها على أجنحةِ الفرحِ، كأنَّها تُحاورُ آهاتِنا الغارقةَ في لُجينِ الذَّاكرةِ، وتُناجي أشواقَنا المتناميةِ بينَ ضفائرِ الحَنينِ، وتُبلْسِمُ أوجاعَنا الثَّخينةَ على مَدى سِنينِ العُمرِ، وتجيبُ بمهارةٍ عَنْ تساؤلاتِنا المُطلْسَمةِ بأسرارِ الحَياةِ عَبرَ أنغامِ كمانِها، وتسترجعُ أحلامَنا الهاربةَ مِنّا بعيداً عَنْ ضجرِ الاشتعالِ وتصدُّعاتِ الانكسارِ في وضَحِ النَّهارِ، وتضعُنا أمامَ ذواتِنا المضرَّجةِ بأسئلةٍ مُوغلةٍ في حَنايا القلبِ، فتنهضُ ذكرياتٌ وأحداثٌ مُوغلةٌ في أعماقِ التَّاريخِ، وتتركُنا في مواجهةِ ذواتِنا. نَغوصُ عميقاً في مَرافئِ العُمرِ، فتذكِّرُنا أنغامُها بما فاتَنا، وما طُمِسَ عميقاً مِنْ بداِئِعِنا الموغلةِ في القِدمِ، وتسترجعُ عَبرَ تجلِّياتِها الرَّهيفةِ كنوزَ حضارتِنا الآفلةِ، وتستنهضُ فينا وَهْجَ النُّهوضِ، والتَّطلُّعِ نحوَ أقصى آفاقِ الجَمالِ والبهاءِ والعَطاءِ عَبرَ أنغامِ كمانِها المتراقصِ على أجملِ الألحانِ، وهي شاهدةٌ على أنَّنا كُنَّا وما زلنا وسَنبقى خلَّاقينَ في العَطاءِ بأرقى مَساراتِ الإبداعِ. ها هي بيرولين رغمَ طفولتِها الغضّةِ، تُعيدُ إلينا مَجدَ الأسلافِ بكلِّ شُموخِ الإشراقِ، تَعزفُ على أوتارِ الرُّوحِ ألحاناً مُنبلجةً مِنْ بَسْمةِ الشَّفقِ، مِنْ خصوبةِ الطٌّفولةِ وصَفاءِ الرُّوحِ، تَعزِفُ على إيقاعِ  دَندناتِ زخَّاتِ المَطَرِ، تُنيرُ أحلامَنا المسكونةَ في أعماقِنا، عزفُها قصائدُ شِعرٍ، لوحاتٌ فنِّيّةٌ، أحلامٌ مفتوحةٌ على أبهى رِحابِ الشّوقِ، دبكاتٌ فنِّيّةٌ راقصةٌ على إيقاعِ الفرحِ، يَنطقُ كَمانُها أسرارَ الموسيقى المُنبعثةَ مِنْ هَدْهداتِ الطَّبيعةِ، ومِنْ خَريرِ السَّواقي وشَهقاتِ الشَّلَّالاتِ، كأنَّها حُلْمٌ مَفتوحٌ عَلى بوَّاباتِ النَّعيمِ.

بيرولين أيَّتُها المتلألئةُ مِثلَ إشراقةِ الصَّباحِ، أيّتُها المسربلةُ بتوهُّجاتِ الحضارةِ المشرقيّةِ بكلِّ تلاوينِها وتفرُّعاتِ انبعاثِها، تُنشدينَ رِحلةَ العبورِ في كنوزِ ماضينا الغابرِ، تعبرينَ برهافةٍ في حَنايا الحَضارةِ المُعشِّشةِ في مرافئِ الرُّوحِ. كيفَ عبرْتِ هذا الفضاءَ المتوَّجَ بأصفى هِلالاتِ السَّماءِ؟! لديكِ مِخيالٌ مُجنَّحٌ نحوَ وميضِ النُّجومِ المتلألئةِ في مآقي السَّماءِ، نحوَ حبورِ أبجدياتِ الآراميّةِ الملفّحةِ بعطاءِ أرقى الحضاراتِ، أبجدياتٍ مُتعانقةٍ مَعَ جُموحاتِ ألحانِ مار أفرام السِّرياني، بطريقةٍ مُتناغمةٍ مَعَ هُبوبِ النَّسيمِ المُندَّى بأعذبِ التَّراتيلِ المُنشدةِ في الهياكلِ المقدّسةِ. أرى في كينونتِكِ كوناً فسيحاً رَحباً مُعبَّقاً بأنقى مَرامي العَطاءِ. أتابعُكِ مُنذُ سنواتٍ، وجدْتُ في أنغامِ عزفِكِ موهبةً سامقةً بالفطرةِ، بالجيناتِ، بمواظبةِ السَّعي نحوَ قِمَمِ  الجبالِ، رأيتُكِ مُسربلةً بطُموحاتٍ مفتوحةٍ على إشراقةِ ضِياءِ الشَّفقِ. أنتِ صديقةُ الحرفِ المبلِّلِ بأصفى الأنغامِ، صديقةُ الشِّعرِ المصفَّى مِنْ شوائبِ هذا الزّمانِ، صديقةُ الخيالِ السَّيَّالِ. أنتِ فنّانةٌ مَمْهورةٌ باخضرارِ تراتيلِ الأعيادِ، وبهجةِ البهجاتِ في أرقى المُناسباتِ. أنتِ لُغةُ الفرحِ الآتي على أنغامِ كَركراتِ الأطفالِ وابتهالاتِ الأُمَّهاتِ وقهقهاتِ الكِبارِ، أنتِ لُغةُ البَسمةِ السَّاطعةِ فوقَ جبينِ الغربِ وهامَةِ الشَّرقِ، أنتِ مُسربلةٌ بزقزقاتِ العصافيرِ وتغريدِ البلابلِ وأصفى ما في هديلِ اليمامِ، أنْتِ لُغةُ الحَضارةِ المنبثقةُ مِنْ آهاتِ الاشتعالِ، شرارةُ عِشقٍ مُتطايرةٌ مِنْ وجنةِ السَّماءِ. تُشبِهينَ أحلامَنا المضرّجةَ بشهقاتِ الحَنينِ، أحلامَنا الّتي لَم نحقِّقْها إلّا عبرَ مِعراجِ الخيالِ، فجئْتِ في صباحٍ مبلَّلٍ بالخيراتِ وأعيادِ الميلادِ، تعزفينَ لنا ألحاناً وأنغاماً مُبهرةً في جموحِها الخلّاقِ، تقدِّمينَها لنا في أيّامِ الأفراحِ على طَبقٍ مِنْ فرحٍ وزَهوٍ، كي تُعيدي لنا بعضاً مِنَ أمجادِنا التّليدةِ، كي تبقى أنغامُكِ رسالةً مُضيئةً للأجيالِ القادمةِ، التي سترفعُ الرّايةَ عالياً بَحثاً عَنْ أرقى آفاقِ كُنوزِ الإبداعِ! أنتِ كنزٌ ثمينٌ موشومةٌ بنِعَمِ الحياةِ، تُسطِّرينَ بأناملِكِ الذَّهبيّةِ رحلةَ العبورِ نحوَ أقصى مَدارجِ المَجدِ. الموسيقى لغةُ السَّماءِ المتهاطلةُ علينا مِنْ خَمائِلِ النَّعيمِ فَوقَ خُدودِ الأرضِ المُزدانةِ باخضرارِ جُفونِ الحَياةِ! 


حازَتْ بيرولين بجدارةٍ عاليةٍ وهي في الحاديةَ عشرةَ مِنْ عُمرِها على جائزةِ النُّوتةِ الذَّهبيّةِ في النَّمسا للعازفينَ الصِّغارِ، عزفَتْ قطعةً للموسيقارِ ڤيڤالدي، متفوِّقةً على العديدِ مِنَ الأطفالِ المَوهوبينَ مِنْ مُختلفِ الأوطانِ والجنسيّاتِ. تميّزَتْ بموهبةٍ فَريدةٍ مِنْ نَوعِها وهي في مَيعةِ الطُّفولةِ، وحقَّقَتْ نجاحاً وحضوراً كبيراً لطفلةٍ في مِثلِ سنِّها الغضِّ. تمتلكُ مهارةً باهرةً في أدائها الفنّي، ممّا دفعت مُدرِّسَتَها البروفيسورة آنّا غوتوفسكا أنْ ترشِّحَها للالتحاقِ بجامعةِ ڤيينّا للموسيقى والفنون، وهي مِنْ أشهرِ الجامعاتِ، كي تستكملَ دراستَها لآلةِ الكمانِ ضمنَ برنامجِ المواهبِ الخاصّةِ، وتُعتبرُ هذهِ الجامعةُ مِنْ أفضلِ الجامعاتِ الموسيقيّةِ في العالمِ. طموحُ بيرولين يجنحُ عالياً، وتطمحُ أنْ تكونَ بروفيسورةً في فضاءِ الموسيقى، ولَمْ تثنِها كلُّ هذهِ الانشغالاتِ والدِّراساتِ عَنْ متابعةِ دراستِها في الحلقةِ الإعداديّةِ، كي تتابعَ دراساتِها الأكاديميّةَ في مُستقبلِ الأيَّامِ. 

بيرولين هي ابنةُ رأس العين، الواقعةُ في الشَّمالِ الشَّرقيِّ مِنْ بركاتِ سوريا، ابنةُ سُلالةٍ ضاربةٍ بجذورِها في أعماقِ الحَضارةِ الآراميّةِ السّريانيّةِ المشرقيّةِ، تتحدَّثُ أسرةُ بيرولين اللُّغةَ السِّريانيّةَ والعربيّةَ والألمانيّةَ. وبيرولين تعني اللُّؤلؤة بالسِّريانيّة، وهي اسمٌ على مُسمَّى فهي لؤلؤةٌ بمهاراتِها الموسيقيّةِ المتفرّدةٍ في براعتِها، وعائلتُها فنّيةٌ أيضاً، حيثُ يعزفُ أخوها الكبير مَسعد بحِرفيَّةٍ ومهاراتٍ عاليةٍ على العودِ والبيانو، كما تعزفُ أختها سميدرا على الكمان أيضاً، فيشكِّلُ هذا الثُّلاثيُّ فرقةً في المنزلِ وفي أرقى المسارحِ، ووالدتُها مدرِّبةُ فرقةِ كورالٍ، تتألَّفُ مِنْ خمسةٍ وأربعينَ طفلاً. وشاركَتْ الفرقةُ الثُّلاثيّةُ، وخاصةً بيرولين في العديدِ مِنْ الحفلاتِ والمهرجاناتِ الموسيقيّةِ في عددٍ مِنَ العواصمِ والمُدنِ الأوروبيّة. كما عزفَتْ باقتدارٍ كبيرٍ في بيتِ موزارت، وكلُّ هذهِ النَّجاحاتِ الّتي حقَّقتْها بيرولين حتَّى الآنَ، وستحَقِّقُها في مستقبلِ الأيّامِ، تنمُّ عن انبعاثِ فنَّانةٍ متفرِّدةٍ في عزفِها وموهبتِها وتجلِّياتِ انطلاقتِها بشغفٍ وطُموحٍ مجنَّحٍ نحوَ رَحابِ فضاءِ العالميّة.  


ستوكهولم: 24. 12. 2023

           صياغة نهائيّة 6. 1. 2024

صبري يوسف

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم 


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق