بدعوة من المجلس الملّي الأورثوذكسيّ في عبلين الجليليّة بتاريخ 11-11-2011، ألقى الموسيقار البروفيسور تيسير إلياس محاضرةً ثريّةً بعنوان "عبد الوهاب بين التقليد والتجديد"، في قاعة كنيسة مار جريس الأرثوذكسيّة في عبلين، بحضور عدد من الموسيقيّين وذوّاقي الموسيقا المهتمّين بها، وذلك بدمج الكلمة المقولة والنغمة المسموعة.
لقد تناول الموسيقار تيسير تاريخ الموسيقا العربيّة وتطوّرها، بدءًا مِن الموشّحات ومرورًا بالدّور، الموّال، الطقطوقة، المونولوج والقصيدة المُغنّاة، كما تحدّث عن نهضةِ الموسيقا العربيّة في القرن العشرين ومسبّباتها ودوافعها، والبصمات الخالدة التي خلفها موسيقار الأجيال التحّديثية الجريئة المغامِرة، والمُطعّمة بالآلات الموسيقيّة الغربيّة كالبيانو والأكورديون والكاستنيت وغيرها، واستخدامها بإتقان متناهٍ دون شوائب تمسّ بأصالة روح الموسيقا الشرقيّة، كما استخدَم مقاماتٍ وموازينَ وايقاعاتٍ صعبةً نادرة، تنمّ عن ثقافة عبد الوهاب الموسيقيّة العالية وقدراته وموهبته الفذة، وكذلك استغلّ اقتباس ثيمات وموتيفاتٍ موسيقيّة غربيّة وطوّرها بروح شرقيّة، دون المساس بالمعالم الأصيلة لروح الموسيقا الشرقيّة.
تولّى عرافة الأمسية الوهابيّة الأديب زهير دعيم، وبعد الترحيب بالضيوف والحضور قال:
سقى الله تلك الأيّام، أيّام الغناء الاصيل والموسيقا البكر العذبة، التي تشنّف الآذانَ وتدغدغُ الرّوحَ،
فتتجلّى وترقص على إيقاعٍ ولا أحلى.
أين نحن اليوم مِن عبد الوهاب والصّافي وفيروز؟ أين نحن اليوم من جيل العمالقة الذين قدّسوا الفنّ ورفعوه عاليًا، فبُحّت الحناجرُ والتهبت الأكفُّ مِن التصفيق؟ أين نحن اليوم مِن خيّ خيّ، وجفنه علّم الغزل، وإمتى الزمان، والنّهر الخالد، ويا وردة الحب الصّافي؟ أين نحن مِن الموسيقا الهادئة حينًا والرّاعشة أحيانا، الموسيقا الملائكيّة التي تأخذ بمجامع النفس الى التحليق؟
كانت أيّام وقد تعود، فالأصالة تتجذّرُ في نفوس البشر، وما نراه اليوم من أغانٍ تَطرَب لها العين لا الأذن، وتنتشي لها الشهوة، لا تمتّ للطرب بصِلة، ولا تعرف الفن مطلقًا.
بوس الواوا، والميوعة والغنج الأجوف والتلوّي الشّهوانيّ ليس فنًّا ولا غناء، ولا تُطرِب إلاّ أولئك الذين يَطفون فوق شبر مِن فنّ. الطرب الأصيل نبيذ معتّق، خاصّة إن جاءَ من عبد الوهاب وأمثاله، الذين غرفوا من القديم وغرفوا من الحديث، فجاء المولود حضارة تستحقُّ العيشَ والخلود.
لا ننادي بالانكفاء والغناء على الأطلال، بل ندعو الـ تطعيم التراث والأصالة بالحديث والجديد والغربي المبتكر، وعندها نرفع الرؤوس شممًا. الأصالة تفرض نفسها على البشر، وتعطي للوجود لونًا وطعمًا، فلا تتمالك نفسك من الصراخ.. يا إلهي.
حقيقة تتوق النفس إلى شيئيْن اثنيْن؛ أوّلهما الله المُحِب، وثانيهما أن تحلّق مع الفنّ إلى سماء هذا الإله بترنيمةٍ وأغنيةٍ ومعزوفةٍ خالدة. ألم يُغنِّ ويُرنّم ويعزف داوود للرّبّ؟
أذكر هذا المبدع الفذ عبد الوهاب، أذكره ولا أنساه، لا يخاف شيئًا إلاّ الطائرة، فكان يقول:
أركب الليث ولا أركبها.. وقد ركب الموجات العاتية، وأبدع في خلق المعزوفات، فرقصنا على وقع غنائِهِ الشجيّ، نربط بين هدوء الطبيعة المصريّة وهدير الشلاّل في لبنان الجبل..
اذًا دعونا نستمع ونتمتع بالأصالة ونعيشها ونغوص في ثناياها، خاصّة وأنّ الغوّاصَ ماهرٌ لا يلتقط إلاّ الدّرر ولا يصطاد إلا النّادر. إنه البروفسور تيسير إلياس ابن شفاعمرو، رئيس قسم الموسيقا الشرقيّة في أكاديميّة الموسيقا وفنون الأداء في القدس، وأستاذ علم المقام وأساليب العزف على آلتيْ العود والكمان في الأكاديميّة.
التقى ضيفنا المبدع والعالمي بالعمالقة من أهل الفن أمثال: محمّد الموجي، بليغ حمدي، منير بشير والصّافي، وللصافي زاوية دافئة في حناياه، اذ يعتبرُهُ أحد الموسيقيّين والفنانين العمالقة في القرنيْن الأخيريْن. حاز على جائزة فرانك بيلغ لعام 2009، اوهو أوّل عربيّ أدخلَ العود إلى البيت الابيض والسنات الفرنسيّ، ويُعتبر من أبرع عازفي العود في العالم. فتحيّة إكبار وإجلال للمجلس الملّي الأورثوذكسيّ الوطنيّ في عبلين، الذي يعمل أفراده ولا يَكلّون، يعملون من أجل الرّبّ أوّلاً والإنسان ثانيًا. سيروا ففي عطائكم خير وبركة.
وجاء في المحاضرة القيمة للموسيقار البروفيسور تيسير إلياس:
كانت وفاة الموسيقار محمّد عبد الوهاب بتاريخ 1-5-1991، ولكن حُرّفَ وزُيّفَ ونُقلَ لـ 3-5-1991، كي لا يتعارض مع تاريخ ميلاد الرئيس المخلوع حسني مبارك. أمّا عن تاريخ ميلاده فهناك إشكاليّة أخرى، فقال عبد الوهاب مرارًا أنّه وُلد بتاريخ 13-3-1910، ولكن لماذا يجب أن لا نوافق هذا التاريخ مع عبد الوهاب؟
بدأ مؤرّخو القرن العشرين 1918 عند انتهاء الحرب العالميّة الثانية، كما بدأ مؤرخو الموسيقا العربيّة في القرن العشرين سنة 1917، عند اعتلاء السّيّد درويش المسرح في مصر، وعند انتشار مسرحيّاته الغنائيّة وليس عام 1900، فالذين أرّخوا الموسيقا العربيّة عند انتهاء عهد السّلطنة العثمانيّة واحتلال الغرب لهذه البلاد، فسنة 1917 كانت فعلاً حدًّا فاصلاً وبداية القرن العشرين من الناحية الموسيقيّة وتاريخ الموسيقا العربيّة، وظهور أسطوانة الفونوغراف ومسرحيّات درويش ورواجها من خلال الأسطوانة أنشأ بيئة جديدة، وافتتح عصرًا موسيقيًّا جديدًا هو بداية القرن العشرين، فعمليًّا الأغنية التي غناها عبد الوهاب للشّاعر خليل مطران ومن ألحان سلامة حجازي على مقام السّيجاة تقول:
أتيتُ فألفيتُها ساهرة/ وقد حملت رأسَها باليديْن/ وفي صدرها زهرةٌ ناضرة/ رأيتُ بأطرافِها دمعتيْنِ/ وقد وقفت دمعةٌ حائرة/ على خدّها مثل ذوب اللجين/ فقلت علامَ البكا والحزن/ وقد تبدّل ذا الابتسام/ فقالت هو الدّهر لا يُؤتمَن/ وفي قوسِهِ منزعٌ للسّهام/ سلامٌ على روحِك الطّاهرة/ سلامٌ على سِرّ ذاك الكمال/ سلامٌ على ذاتك الحاضرة/ بقلب يراها بعين الخيال/ سلامٌ على مهجةٍ طائرة/ حنينًا إلى ذاك الاتصال/ تُفرّقُنا عادياتُ الزّمن/ فتجمعُنا حادثاتُ الغرام/ فنُحيي جسومًا بهذي الفِتن، ونُحيي نفوسًا بذاك السّلام.
هذه أوّل أغنية سجّلها محمّد عبد الوهاب على أسطوانة نحاسيّة سنة 1921، فإذن كان عمره فقط 11 سنة! هذا غير منطقيّ، فصوته فعلاً يشبه صوت الفتى، ولكن إذا دققنا السّمع، لوجدنا أنّ صوت القانون حادٌّ جدًّا وسريع جدًّا وغيرُ طبيعيّ، وإذا ما أبطأنا سرعة التسجيل نرى أنّ هناك رجلاً يُغني وليس فتى، والقانون يُسمع بشكل طبيعيّ واعتياديّ اكثرَ ممّا سمعناه من قبل، وذلك يعود إلى أنّ شركات الأسطوانات كانت في البداية تُسجّلُ على اسطواناتٍ نحاسيّة عند دخول الفونوغراف إلى مصر سنة 1904، وإذا كانت الاسطوانة لا تستوعبُ الأغنية الكبيرة، فكانوا يلجؤون إلى تسريع التسجيل، كي تستوعب هذه المعلومات الموسيقيّة، وبذلك يصبح الصّوت أرفعَ وأحدَّ مِن ناحية عدد الذبذبات الصوتيّة وليس أقوى، وطبعًا نفس الكلام ينطبق على الأغنية التي سجّلها بنفس السّنة لسلامة حجازي، أتيت فألفيتُها ساهرة، ولو راقبنا الأغنية لوجدنا الأداءَ ناضجًا متمكّنًا مِن العُرَبِ الصّوتيّة والزّخرفاتِ والتلوين، وهذا لا ينطبق على فتى عمره 11 سنة وإنما على رجل أكبر، لذلك فالأجدر أن نصدّقَ ونُؤمنَ بادّعاء المؤرّخ المصريّ عبد العزيز عناني، والمستشرقة السّوفييتيّة إيزابيلا يوليان، التي ادّعت أنّ عبد الوهاب صرّح لها شخصيًّا أنّه وُلد عام 1902، أي عندما غنّى الأغنية "أتيتُ فألفيتها ساهرة"، وكان عمره حينذاك 19 عامًا، وهذا منطقيّ جدًّا لفنان عبقريّ موهوب.
عبد الوهاب نشأ في بيئةٍ دينيّة في حي باب الشّعريّة، وكان والدُه الشيخ محمّد أبو عيسى يعمل كمؤذّن وقارئ في جامع سيدي الشّعراني، وأمه فاطمة حجازي أنجبت محمّد وبنتان توفيتا في جيل مبكّر، وكان عبد الوهاب مريضًا نحيلاً هزيلاً، صدرت شهادة وفاته حين كان عمره 12 سنة، وأفاق من الموت عندما كانوا يغسلونه للدّفن، لذلك كان موسوسًا يخافُ المرض والموت، ويُقال إنّه كان يلفّ جسمَهُ بالصّحف تحت ثيابه كي لا يمرض، وقد كان ابنه يشتاق إليه، فيطلب من ابنه أن يبوسه من ظهره كي لا يعديه، وهذا الوسواس نبعَ مِن كونه مات وقام.
نشأ في بيئةٍ كلاسيكيّة، فحفظ القرآن واستمعَ إلى المطربين، وكان يختبئ تحت الدّكّة في المسارح يستمع إلى المُنشِدين والمشايخ مثل السّيد صفدي، ويوسف المندلاوي، وسلامة حجازي، وعبد الحيّ حلمي، وصالح عبد الحيّ ومغنيين وموسيقيّين عباقرة، وشبّ وترعرع وتشبّع بالتراث الموسيقيّ العربيّ الكلاسيكيّ والدّينيّ، وأكملَ ثقافته الموسيقيّة فدخل نادي الموسيقا الشرقيّ، فدرسَ الموشّحات على يد محمود رحمة ودرويش الحريري عباقرة الموشّحات، ودرسَ العزفَ على العودِ على يد المُلحّن محمّد القصبجي؛ الذي لازمَ أمّ كلثوم لحنًا وعزفًا على العود حتى مماتِه، وأبقت أمّ كلثوم كرسيّه فارغًا بجانبِها وفاءً وتبجيلاً له، وطبعًا أكملَ ثقافتَهُ الموسيقيّة بدراستِهِ للّغةِ العربيّة نحوًا وصرْفًا، وأجادَها وألمّ بها أيما إلمام، وعندما استمعَ إليهِ سيّد درويش أُعجبَ به جدّا وقال: "إنّ لهذا الشاب سيكون مستقبلاً زاهرًا جدّا، وسيغزو العالمَ بصوتِهِ وقدرتِهِ الموسيقيّة". وبالفعل نتجت بينهما صداقة وعلاقة حميمة جدّا، فقال سيّد درويش: "سيكون الوهاب خليفتي".
عندما مرض سيّد درويش طلبَ مِن الوهاب أن يستبدلَهُ في مسرحيّاته "العِشرة الطيّبة" و"شهرزاد"؛ اللتان كان ينبغي على سيد درويش أن يُغنّي بهما، فقام الوهاب بدوْر سيّد درويش بنجاح كبير جدًّا، وكسب صيت وشهرة عالييْن، وهذا يدلّ أن عبد الوهاب كان متأثّرًا بسيّد درويش، حتّى أنّه كان يقول:
أنا درويشيٌّ حتّى النّخاع"!
فلنستمع إلى الأداء الرائع في موشح سيّد درويش "ملا الكاسات" للملحّن محمّد عثمان، أحد أهمّ فنّاني عصر النهضة في مصر والذاكرة الموسيقيّة العربيّة، على مقام الرّاست وإيقاع السّماعي الثقيل: ملا الكاسات وسقاني نحيلُ الخصرِ والقدِّ/ حياة الروح في لفظِه سباني لحظُهُ الهنديّ/ يا مليمي لا تسلْ عنّي وخلّيني على عهدي!
هذا الموشح مِن أهمّ الموشّحات من مقام الراست على الكردان، البياتي والتلوينات الموسيقيّة من بياتي عشيران وبياتي دوكاه، تميّز بالبراعة إذ ارتجل عبد الوهاب على ميزان تسعة أثمان، ومنه انتقلَ إلى ميزان عشرة أثمان، وهذا موسيقيًّا معقّد قليلاً، ولم أسمع مطربًا عربيًّا غنّى بميزانٍ معقّدٍ بهذا الشّكل.
في سنة 1924 التقى عبد الوهاب بوالدِهِ الرّوحيّ الثاني الشّاعر أحمد شوقي، الذي استطاعَ أن يدلّهُ على أعماق ذاته كما قال عبدالوهاب نفسه، فتعلّم منه كثيرًا، وكان بالنسبة له بمثابةِ جواز سفر إلى المجتمعات الرّاقية، واستفاد منه أكثر مِن قراءة ألف كتاب أدبيّ على حدّ قول عبد الوهاب، وكانت سنوات مرافقته لأحمد شوقي حتى سنة وفاته 1932 أهمّ سنوات عبد الوهاب الزاخرة بالإنتاج، سجّلَ فيها حوالي ستين أغنية مِن أجمل ماغنّى، وكانت بمثابة علامة فارقة جدّا في تاريخ الموسيقا لعربيّة، صقلت وجهَ الموسيقا العربيّة في القرن العشرين، وهذه الأغاني التي سجّلها يمكن تقسيمُها إلى خمسة أنواع موسيقيّة رئيسيّة:
النوع الأوّل هو الأدوار: لحّنها وغنّاها بين الأعوام 1926 و 1932، والدّوْر مِن ناحيةٍ موسيقيّة هو شكلٌ وعمارة موسيقيّة، وما يُميّزُهُ أنّه في ذروتِهِ هناكَ حوار بين المُغنّي وبين الجوقة، التي سمّوْها المذهبجيّة او السلويتة او الردّيدة وعدّة أسماء أخرى، وكان هناك السّؤالُ والجوابُ وما يُسمّى الهانك والرانك، فكان المُغنّي يَصلُ إلى ذروة الإبداع في الارتجالاتِ الصّوتيّة والتعبير في الارتجالات في هذا الدّور، لذلك في الوصلةِ الموسيقيّةِ في الدّور كان هو آخِر مقطوعة موسيقيّة تُؤدّى في الوصلة الموسيقيّة، من أجل الوصول إلى الذروة الموسيقيّة، فعدّة أدوار مُهمّة لحّنها عبد الوهاب مثل حبيب القلب، عشقت روحك، القلب ياما انتظر، الليلة الوصل استنى، أحبّ أشوفك كلّ يوم!
النوع الثاني هو القصائد، لحّنها وغنّاها بصوتِه مثل: يا جارة الوادي شعر أحمد شوقي 1928، خدعوها بقولهم حسناء لأحمد شوقي 1928، الصّبا والجَمال شعر الاخطل الصّغير بشارة الخوري 1930، جفنُهُ علّمَ الغَزل شعر بشارة الخوري 1933، الجندول شعر علي محمود طه 1939، الكرنك شعر أحمد فتحي 1941، دمشق شعر أحمد شوقي 1943، لست أدري شعر إيليا أبو ماضي 1944، كليوباترا شعر علي محمود طه 1944، همسة حائرة شعر عزيز أباظة 1948، فلسطين شعر علي محمود طه 1948، النّهر الخالد شعر محمود حسن إسماعيل 1954، ودعاء الشّرق شعر محمود حسن إسماعيل 1954.
كما لحّن قصائد لأمّ كلثوم مثل: على باب مصر شعر كامل الشناوي 1964، هذه ليلتي شعر جورج جرداق 1968، أصبح عندي بندقيّة شعر نزار قباني 1969، أغدًا ألقاك شعر الطيّب آدم 1970، وهنا في القصائد نرى أنّ عبد الوهاب أخذ يختطُّ لنفسِهِ أسلوبًا مُغايرًا ومستقلاًّ عن سيّد درويش، فابدعَ أكثر
النوع الثالث هي الطقطوقة، والطقطوقة ليست بالضّرورة أن تكون أغنيةً خفيفةً أو ركيكة، إنّما هناك طقاطيق مُعقّدة جدًّا كمثل التي لحّنها السنباطي "غنّي لي شويّة شويّة"، و"أنا في انتظارك" وغيرها الكثير، وأيضًا عبد الوهاب أضاف إلى هذا المخزون ولحّن طقاطيق جميلة جدًّا مثل: خايف أقول اللي في قلبي بمقام بياتي، اِجري اِجري بمقام هزام، لمّا انتَ ناوي بمقام بياتي، إمتى الزّمان بمقام بياتي، وليلة الوداع وغيرها.
القسم الرابع المواويل، وهو غناء حرّ مُرتَجَل يتنقّل بين المقامات، وهو غيرُ مُوَقّع؛ أي لا يلتزمُ بإيقاعٍ مُعيّن ولا يتقيّدُ بوحدةٍ زمنيّة معيّنة مثل الأنواع الأخرى، ومِن مواويله: اللي انكتب عالجبين، سبع سواقي، في البحر لم فتّكم، وموّال كلّ اللّي انحبّ اتْنَصَف لإبراهيم عبدالله.
كلّ اللي حب اتنصف/ وأنا اللي وحدي شكيت/ حتى اللي رحت اشتكي له قال لي ليه حبّيت/ لا شكوى نفعت ولا يا قلب الحبيب رَقّيت/ احترت والله واحتار دليلي يا ناس/ ياربي أمرَك وباللي كتبتُه أنا رضيت
هذا الموّال قامَ على مقامٍ نادرٍ جدًّا اسمُه دلنشين، هذا المقام يبدأ بالرّاست مقام عربيّ أصيل، والجزء الآخر منه يعملُ صدى على الأوكتاف العالية بلحن حزين، ويرجعُ للرّاست بتناقضٍ شديدٍ بين الجوّ المُفرِح لمقام الراست، والجوّ الحزين لمقام الصّبا، وهذا الدّمجُ نادرٌ جدّا، ولذلك يُعتبر مقام نادر وخاصّ، وهذا الموّال يعتبر بالفعل من المواويل القليلة جدّا التي لُحّنت على هذا المقام.
النوع الخامس هو المونولوج الذي له طابع فكاهيّ، أو رومانسيّ فيه وصفٌ للحبّ وسرديّ قصصيّ، يقصّ المُغني ويسرد ويحكي ويشكو ويُعبّرُ عن لواعج نفسه، وما يختلجُ قلبه مِن مشاعر ولواعج وحبّ وهوى، وكان قدّمَهُ لأوّل مرّة سيد درويش عام 1920، "والله تستاهل يا قلبي" كلمات أمين صدقي في أوبريت راحت عليك.
المونولوج يشبه ما يسمى الـ آريا في الأوبرا، والمونولوج مُستوْحى من الآريا الأوبراليّة، وعبد الوهاب لم يُهمل هذا النوع من المونولوجات، ولحّن العديدَ من المونولوجات الجميلة التي غنّاها مثل: في الليل لمّا خلى 1928 كلمات أحمد شوقي، أهون عليك 1928 كلمات يونس القاضي، بلبل حيران، وأجملها مضيت على بيت الحبايب.
عمليّة التثاقف والتلاقح الحضاريّ هي عملية مستمرّة بفضل وسائل النقل والإعلام المتوفّرة هذه الأيّام، وهذا يُساهم في التقاء وإثراء الحضارات، بشرط أن نحافظ على الأسس المتينة المَبنيّة عليها كلّ حضارة وحضارة، وبهذا الشّأن أتطرّق إلى سيرورة الانتقال بين التخت الشرقيّ الأصيل إلى ما يُسمّى الفرقة الموسيقيّة الأوركسترا، التي تكوّنت بعد ذلك بسنوات الثلاثينيّات والأربعينينيّات، وسأتطرّق إلى إسقاطاتِها وتأثيراتها على الموسيقا العربيّة وعلى موسيقا سيّد درويش، فيمكن الإشارة إلى ثلاثة عوامل رئيسيّة أدّت إلى هذا التطوّر والانتقال من التخت إلى الفرقة الموسيقيّة:
أوّلها الحملات الصّليبيّة، وثانيها حملة نابليون على مصر، وكان مع نابليون رجل موسيقيّ اسمه أندريه كتب عن الموسيقا في مصر ولم تعجبه ووصفها بنباح الكلاب، لكنه مع ذلك أفادنا بحديثه عن وضع الموسيقا في تلك الفترة، والنقطة الثالثة والأهمّ هي افتتاح قناة السّويس.
الخديوي إسماعيل كان آنذاك مأسورًا بجَمال الموسيقا الغربيّة يُحبّها ويعشقها، وكي يُدشّن افتتاح قناة السّويس قرّر أن يعمل دار أوبريت في مصر عام 1969، ولكن حُرقت في عام 1971، لذلك توجّهَ إلى أعظم مُلحّني الأوبرا العالميّين في الإيطاليّ جوزيف فيردي ولحّن أوبرا عايدة، وهذا العمل الضّخم تطلّب إحضار موسيقيّين عالميّين استقرّوا في القاهرة وتدرّبوا مدّة سنتين، ولكن لم يتمكّنوا من تأدية أوبرا عايدة في التدشين رغمَ نجاح فيردي بإنجاز العمل، وذلك بسبب عدم وصول ديكورات وملابس العمل من باريس، بسبب حصار القوّات الرّوسيّة للعاصمة الفرنسيّة، فأدّوا في 1-11-1969 أوبرا ريفو ليتو المأخوذة من قصّة الملك بلمو لفكتور هوغو وتلحين فيردي، وحضر الحفل الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون والإمبراطور فرانسوا جوزف عاهل النمسا وولي عهد بروسيا، وأمراء ورجال دين وفكر أوروبيّين، وأوبرا عايدة قُدّمت في 24-12-1971 على خشبة مسرح دار الأوبرا في القاهرة، وهي قطعة تياتريّة تشملُ مناظرَ عجيبةً ومراقصَ غريبة وأغاني طربيّةً مُوزّعةً بثلاثةِ فصول.
كان لافتتاح قناة السّويس ووجودِ الموسيقيّين الغربيّين مدّة سنتين في القاهرة أثرٌ كبيرٌ جدّا على الموسيقيّين المَحلّيّين في مصر، فقسم عاد لأوروبا وقسم بقي في مصر، افقام أندريه رايتر بمهمّة التوزيع الموسيقيّ لأغاني عبد الوهاب الذي تعلم منه الكثير، وبعضُ الموسيقيّين الغربيّين استمرّوا في العيش في مصر وبدؤوا يبنون المعاهد الموسيقيّة والمدارس الموسيقيّة والفرق الموسيقيّة والعسكريّة، وبدأت نهضة موسيقيّة غربيّة جديدة في مصر، وكان هناك جمهورٌ لهذه الموسيقا، وهذا ما أدّى إلى اتّساع التخت الذي كان مكوّنًا من أربع أو خمس آلات موسيقيّة، كالعود الكمان الناي الرّق والقانون والمُغنّي، ولكن بإضافة هذه الآلات من الكمنجات والتشيلو والفيولا وإلخ، صار يتوسّع التخت إلى أن تغيّرَ اسمُهُ وصار فرقة أوركسترا، شملت أكثر من ثلاثين عازف على مختلف الآلات الموسيقيّة، وهذا طبعًا أدّى إلى تغييرٍ شامل، فعبد الوهاب لم يقف مكتوف الأيدي حيالَ هذا التغيير والتطوّر، إنما سعى إلى التأقلم مع الوضع الجديد، فنظرَ إلى الموسيقا الغربيّة نظرة راقية ومتطوّرة ومرتبة جدّا، ولكن بشرط أن نحافظ على التراث القوميّ الموسيقيّ ولا نؤذيه، وهذا كلّه أدّى إلى خلق أنواع جديدة من الموسيقا مثل المسرح الغنائيّ، الأفلام الموسيقيّة والسينمائيّة، وعبد الوهاب أسهم كثيرًا في هذا المضمار، ولحّن ألحان عديدة لأفلام سينمائيّة لمطربين، وكان له أيضًا أفلامُهُ الخاصّة بأغانيه مثل:
فيلم الوردة البيضاء 1933، دموع الحب 1935، يحيا الحب 1938، يوم سعيد 1940، ممنوع الحب 1942، رصاصة في القلب 1944، لست ملاكا 1947، غزل البنات 1949، منتهى الفرح 1963.
أدخلَ عبد الوهاب العناصرَ الغربيّة في موسيقاه دونما إيذاء الموسيقا العربيّة وحُرمتها وانتهاك قدسيّتها وجَماليّتها، لأنّ نشوءَهُ في مدرسة القرن التاسع عشر، ونماءَ وعيِهِ الموسيقيّ في تربة التجويد والموشّحات، حصّنَهُ مِن خطرِ الانزلاق والإسفاف في مستوى الموسيقا العربية، وقد عارضَ كلّ مَن وجّهَ إليهِ إصبعَ الاتّهام باستخدام العناصرِ الغربيّة، وكانت له نظريّة واضحة يمكن تلخيصُها:
أوّلاً.. إدخالُ الآلات الوتريّة هو أمرٌ حيويّ يُفيدُ الموسيقا العربيّة ولا يؤذيها، إنّما يُعطيها خدمةً كبيرة جدًّا، لأنّه يُمكننا أن نؤدّي عليها أرباع الصّوت والمقامات الشرقيّة، مثل الرّاست والبياتي والسّيجاه وغيرها دون أيّة مشاكل، وهي آلات جميلة وتعبيريّة تتكلّم اللّهجة المصريّة العربيّة دون أيّة لكنةٍ هجينة، فكيف يمكن أن نتخيّل الأطلال دون آلة التشيلو الذي يفتتح الأطلال بها، أو معزوفة الحنّة لعبد الوهاب، فالتشيلو صارت تتكلّم اللّغة العربيّة الفصحى.
وثانيًا.. بالنسبة للآلات الموسيقيّة الضّاربة الإيقاعيّة فهي لا تعزف ولا تتعارض مع المقامات الشرقيّة، إنّما جاءت لدعم الآلات الإيقاعيّة الشّرقيّة، مثل الدّفّ والرّقّ والطّبلة وما إلى ذلك، ولا تأتي لتحلّ محلّها أو تستبدلها.
أمّا بالنسبة لآلات البيانو والأكورديون والفلوت وغيرها فقد استخدمها بحذر شديد في مقامات لا تحتوي على أرباع الصّوت، مثل مقامات النهاوند والكرد وغيرها، وكان استخدام هذه الآلات لإثراء الموسيقا، وكان موقفه واضحًا بهذا الصّدد بعدم إيذائه للموسيقا العربيّة، إنّما نادى بخدمتها وإثرائها وتطويرها بشكل حذر جدًّا ومُدرَك وواعٍ، دون وقوعِه في الهاوية والإسفافِ الموسيقيّ.
ومِن الأغاني التي تنمّ عن تجديد وحسّ مُرهفٍ إبداعيّ كان عليها تأثيرٌ غربيّ "أغنية أحبّ عيشة الحرية"، فقد اقتبس موتيف مُكوّن من أربع نغمات فقط من السّمفونية الخامسة لبتهوفن، وعالجهم بشكل مُوفّق وناجح وأصبحوا العمود الفقريّ في هيكل الأغنية، وهذه السّمفونية كان بتهوفن قد لحّنها واستعدّ لتقديمِها باسم أرويكا البطوليّة عام 1805، لإعجابه بشخصيّة نابليون وتمجيدًا له، ولكن عندما نصّبَ نابليون نفسَهُ امبراطورًا وخالفَ مبادئَ الثّورةِ الفرنسيّة، أحسّ بتهوفن بالخذلان وأراد تمزيق السّمفونيّة، ولكن تلاميذُهُ خلّصوا الأوراق مِن بين يديه، فقدّمها مُجرّدَ سمفونيّة رقميّة تحمل الرّقم 5، ويبدو أنّ عبد الوهاب بثقافتِه الواسعة قد عرف القصّة لهذه السّمفونيّة، فدمجَ فكرةَ الحُرّيّة مع الموتيف الموسيقيّ.
كان قد عُقدَ في القاهرة مؤتمرٌ موسيقيّ هامّ جدًّا، واشتركَ فيهِ لفيفٌ مِن الموسيقيّين الغربيّين والعرب، وكان الموسيقيّ اللّبنانيّ وديع سمرة قد اخترعَ بيانو شرقيّ، استخدمَ فيهِ أرباع الصّوت، ولكن للأسف الشّديد رُفضت الفكرة ولم تُقبل، ولكن فاجأنا عبد الوهاب باستخدام البيانو الغربيّ كما هو دون أيّ تغيير، ولحّن عليه من أجملِ ما لحّن أغنية "الصّبا والجَمال" للشاعر الأخطل الصّغير بشارة الخوري، وكانت مرافقة البيانو مرافقة غربيّة محضة، لغناءٍ تطريبيّ قرآنيّ تجويديّ مِن الدّرجة الأولى، جمَعَ بين متناقضيْن شديديْن بشكلٍ إبداعيّ.
وتقول رائعة الخطل الصّغير بشارة الخوري:
الصّبا والجَمال مُلك يديكِ/ أيّ تاجٍ أعزّ مِن تاجيْكِ/ نصبَ الحُسنُ عرشَهُ فسألنا/ مَن تُراها له، فدلّ عليكِ/ فاسكبي روحَكِ الحنون عليهِ/ كانسكابِ السّماءِ في عينيْكِ/ كلّما نافسَ الصّبا بجمالٍ/ عبقريِّ السّنا نمّاه إليكِ/ ما تغنّى الهزارُ إلاّ ليُلقي/ زفراتِ الغرامِ في أذنيْكِ/ سَكِرَ الرّوضُ سكرة ً صرعتهُ/ عندَ مجرى العبيرِ مِن نهديْكِ/ قتلَ الوردُ نفسَهُ حسدًا منكِ/ وألقى دِماهُ في وجنتيْكِ/ والفراشاتُ ملّت الزّهرَ لمّا/ حدّثتها الأنسامُ عن شفتيْكِ/ رفعوا منكِ للجمالِ إلهًا/ وانحنوا سُجّدًا على قدميْكِ.
وأيضًا في أغنية "يا مسافر وحدك" استخدم الـ كاستينيت؛ آلة إيقاع إسبانيّة تُستخدَم في رقص الفلامنكو، وكذلك استخدم آلة البيكولو؛ الآلة النافخة الصّغيرة ونادرة الاستخدام، استخدمها في أغنية "القمح الليلة".
وفي أغنية "اِجري اِجري" استخدمَ إيقاع الفوكس الذي يصفُ بدقّةٍ خببَ الحصان مع العربة التي يجرّها، وهناك نماذج كثيرة أخرى، وهذه التجارب الجريئة الناجحة هي نماذج قليلة لتوطيدِ العلاقة بين التقليد والتجديد، فجعلَ الفنّ الحديثَ ابنًا شرعيًّا بارًّا في الفنّ القديم.
0 comments:
إرسال تعليق