كلما أطلت فيروز على المسرح، خشع الجالسون في حضورها. كلما غنت فيروز على المسرح، حمل طيفها الجالسين في حضورها الى الصباحات التي ألفوا فيها صوتها نوراً يحملهم الى الآتي من الزمن. كلما غابت فيروز خلف الستارة، شرع الترقب يغذّي لهفة العودة. كلما ودعت فيروز الآتين اليها، ارتحلت أرواحهم في ثنايا طيفها، علّ الأزلي منها يهديهم الى درب العودة.
يُشعر الحاضرون في مسرح "بلاتيا" في ساحل علما من يراقبهم بأن لكل منهم حكايته مع السيدة. وكأن كلاً منهم غفا طفلاً على هدهدة صوتها، وكأن كل شابة رندحت لها أمها "يلا تنام ريما" ولو لم يكن شعرها "أشقر ومنقّى"، وكأن كل شاب بكى يوماً في غربته وهو يستمع الى "خدني زرعني بأرض لبنان"... لكل حكايته وأغنيته وحركته ولحظته معها. هي كلهم جميعاً، لهم ومنهم وفيهم في كل أوقاتهم، في حلو حياتهم ومرها، في أرضهم وغربتهم. يأتون اليها كالعائدين الى مهد الطفولة ونبع الصبا ومرقد الوداع، ويرحلون معها الى حيث تريد. لا يسألون، لا يستفسرون، لا يستغربون. باتت فيروز للناس المرأة الأكثر من كائن. هي سر التكوين حين يتجسد وينطق. حالهم ان الخارجة من خلف الستارة على المسرح ليست بشراً من الطينة التي هم عليها. لا يريدونها أساساً ان تكون مثلهم. هي صورة الذات البشرية التي وهبها بارئها أكثر مما يحق للعاديين من الناس. يريدونها ان تكون كذلك، ويريدون لها ان تبقى الصوت الذي يضيء لهم الظلمة ويعلن موعد طلوع الشمس.
كلما باعدت فيروز بين إطلالاتها على ناسها، اشتاق اليها الجميع. حين تطل عليهم مرتين في نحو سنة، لا ملجأ لهم سوى ان يطالبوها بالمزيد. كل موعد هو لما بعده، لسؤال المتى الذي يؤرق أذهان العاشقين. ينتظرون منها الجديد، تلاقيهم بالقديم. ينصتون الى ذكريات أعمارهم بصوتها، تنقلهم الى "جسر اللوزية"، يراقبون معها سطح الجيران في "طيري يا طيارة طيري"، ينساهم الزمان وهو على طريق العودة الى البدايات. كانت فيروز في أولى أمسياتها الأربع (تستكمل مساء اليوم، والجمعة 16 من الجاري والسبت 17 منه)، كالأيقونة التي تستزيد من ماضيها موقداً لحاضرها، كمن تقول لناسها ان فيروز هي هي، بلا تقديم أو مقدمات، بصوتها الذي يعرف ان يرسم حدود آثار الزمن ويتأقلم معه ليحرّك كل حواسه.
أرادت فيروز ان تقول للحاضرين الكثير مما أرادوا ان يسمعوه. أعادتهم الى قديمها، الى أنفسهم، الى أفراحها وآمالها وصباحاتها ومساءاتها، الى بيروت وشامِها وعصافير المواسم المتنقلة بينهما. كانت فيروز قديمة وجديدة ودائمة ومتجددة. جمودها حركة وصمتها كلام، والدف الصغير الذي حملته على الخشبة أقام مسرحاً بأكمله ولم يقعده. كانت فيروز خليط الأسرار والمفاجآت ولحظات الأسر والدمع والعشق والحب والأسى، ولوعة الأرض، وضعف الحب، وقوة الشوق، والبلاد التي تحميها العينان.
كانت فيروز ملكة على عرش لا يسعه مُلك الأرض. لا يرى الحاضرون عالماً أبعد من النقطة الصغيرة التي يشع منها نور الحياة. سيدة صوتها حياة، وفيه ما يكفيهم منها. هو النهم المتحكم حتى رفض الانعتاق. أعادت فيروز كثيرين ممن رحلوا، واستضافت بعضاً ممن رحلوا. الى هنا عاد نصري، وفي الزاوية كان زياد. طيف عاصي أينما كان، وكأنما هو الشوق الذي يحملها الى رفيق الدرب الذي وجد فيها ضالته وتحفته وأيقونته. اختصرت فيروز كل هؤلاء. رجال في سيدة. مبدعون في عبقرية. قديسون في أيقونة. أربع أمسيات في دهر. كل لقاء يحمل معه أثر الوداع وتأثره. غنته فيروز بعدما خرجت. عادت والطيف معها. غادرت وأرواح الكل ملك صوتها. ستكون معنا اليوم والجمعة والسبت. ستمضي السيدة الى ما بعد أيامنا. أحدٌ لن ينسى. أحدٌ لا يريد ان ينسى.
النهار ـ كريم أبو مرعي
0 comments:
إرسال تعليق